نزلت من فوق الجبل لحجرة المبيت .. كانت واسعة وإن لم تحوى إلا دفاية صغيرة وأكياس النوم التى صعد بها المرشد البدوى مع الجمال .. تزايد البرد كثيرا (أشك انه كان تحت الصفر لأن الماء تجمد وقتها) ولبست كل ما حملته معى من ملابس ولم يؤثر .. انددست تحت كيس النوم ولازلت أرتعد من البرد .. حاولت الخروج مرة أو مرتين من الغرفة لكن الجو كان أكثر صقيعا بالخارج والسماء انطفأت فيها النجوم تماما .. كانت ليلة كابوسية وظلت تراودنى أفكار ومشاعر سيئة كثيرة حاولت مقاومتها فلم أستطع .. وفى آخر الليل أجهدت تماما من التفكير والبرد فأنعم الله على بالنوم ولم استيقظ إلا على الفجر .. فى وقت آخر من الرحلة كنت أحدث صديقة عن ذلك الأمر فأخبرتنى أن ما حدث شعور طبيعى .. الإنسان حينما يبرد كثيرا تأتيه هلاوس كأنها انذار له كى يتحرك لأن البرد خطير على جسم الأنسان .. أخذت أهون على نفسى وادرك كم أقسو عليها فى حين أن ربنا أرحم من ذلك .. لا يحاسبنا على أفكارنا ولا ضعفنا ويغفر لنا كل شىء .. فلما أحمل نفسى من العذاب ما لم يفعله الله بى .. احيانا افكر انه ربما غدا سيحدث كذا .. ربما ستقع تلك الطائرة .. ربما سيصطدم المترو بالذى يجاوره ..ربما سينقلب الأتوبيس .. أغمض عينى من الخوف لكن دائما الفجر يأتى فى النهاية .. يذهب الخوف والتعب وتأتى رحمة الله .. لا يوجد موقف ابدا رأيته فى حياتى كنت فيه فى قمة العذاب وإلا وآتت رحمة الله تربت على قلبى وتطمئننى بوجوده ورعايته .. وحدث فعلا بعد تلك الليلة أن آتى الصباح وذهب التعب وكأنه لم يكن وبدأت استعد لرحلة جديدة ..
رحلة الهبوط ..
تحركت المجموعة وفطرنا فطارا شهيا .. كانت اجسادنا صاحية وأخبرنا المرشد أن الهبوط سهل جدا لكن ننتبه جيدا لموقع أقدامنا حتى لا تزل مع سرعة انزلاق الصخور .. تلك المرة الأمر كان واضحا .. اتبع الطريق الذى تجد الصخور فيه ممهدة أكثر من غيره .. بدأت اسبق المجموعة وأسمع اصواتهم من بعيد .. فى البداية مللت وأردت ان اسرع كى نصل بسرعة لكن بدأت الجبال تلفت انتباهى .. كان هناك جبل أسود تقريبا تحته سهل عميق للغاية .. المنظر يبدو مهيبا وبدأت اتخيل سيدنا موسى عليه السلام هنا .. هذا المكان قد حدث فيه شىء لأنه يبدو مختلفا كثيرا عما حوله .. بدأت اقرأ سورة (طه) بتركيز فى كل آية وأتخيل أحداثها .. (وهل آتاك حديث موسى .. إذ رأى نارا فقال لأهله أمكثوا إنى آنست نارا لعلى آتيكم منها بقبس او أجد على النار هدى .. فلما آتاها نودى يا موسى .. إنى انا ربك فأخلع نعليك إنك بالوادى المقدس طوى ... وأنا أخترتك فأستمع لما يوحى ..إننى انا الله لا اله إلا انا فأعبدنى وأقم الصلاة لذكرى) ... تخيل أن هذا المكان قد سمع الله عز وجل .. هذا المكان الصامت المهيب .. أخذت أنزل واقرأ الأية ثم يراودنى خاطر يصرفنى ثم اعود وهكذا لفترة .. آيات القراءن حينما تنتبه إليها تفهم أهمية كل كلمة .. (أقم الصلاة لذكرى) .. (خذها ولا تخف) .. (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر او يخشى) .. إن القراءن علم لا قرار له وليس فقط كتاب نقرأه كى نأخذ ثواب عليه .. كلمات تلخص خلق الله للكون وحكمته ومعاملته لخلقه .. وذات الكلمات يمكن أن تسمعها فى مكان وزمان لا تفهمها وتجدها واضحة جدا فى موضع آخر .. بحسب استعدادك للتلقى لذلك لا يكون شاغلك أخذ الثواب بقدر ما تريد ان تفهم وتنور عقلك بكلام الله عز وجل إلى خلقه .. أنهيت ذلك الجزء الغريب من الجبل وأقتربنا من النهاية ففضلت أن أجعل المجموعة أمامى تلك المرة لأنى سأفعل شىء غريب .. بدأت اكلم نفسى بصوت واضح كما اكلمك تماما .. بل وأكلمها وكأنها شخص آخر واناديها بأسمها وأتحدث معاها .. اسألها عن كل شىء .. دخلت فى اعماق كثيرة لا اقف عند تفسير سطحى اعتدت دائما أن اقنع به نفسى .. بل اتوغل اكثر واحلل المخاوف والذكريات إلى تفسيرات عقلانية بعيدة عن الشعور السلبى المحض والمقاومة التى لا مبرر لها .. شاهدت مرة فى فيلم (كونج فو باندا) الجزء الثانى كان بطل الفيلم دائما يصل لجزء معين من الذكريات ويقف خوفا من التوغل اكثر .. يخاف ان يرى اسوء كوابيس نفسه .. ثم بعد ذلك اخبره حكيم : "لا تقاوم دع الذكريات تجرى كماء النهر" .. عندما فعل ذلك اكتشف حقائق اخرى تدحض كل مخاوفه .. يجب ان تتعلم كيف تواجه مخاوفك لا تدفنها وتصبح شجاعا تجاه أى فكرة وشعور ..حينما تفعل ذلك ستكون دائما بعد امر الله سيد نفسك لأنك ترى كل جزء منها ولم تعد تهرب منها ولم تعد هى تختبىء منك ..
وصلنا إلى بيت رجل بدوى عجوز فى الجبل وارتحنا عنده قليلا .. هذا البيت كان كالأشارة إننا اقتربنا من الأرض .. أكملنا الرحلة وحينما وصلت لقاع الجبل نظرت للجبل وبكيت .. أحببتك ايها الجبل كثيرا وأحببت كل درس تعلمته فيك .. حانت لحظة فراقك وانت على صمتك وهيبتك قد تكلمت كثيرا واخبرت روحى بما لم افهمه من قبل .. لا ادرى ان كنت سأراك ثانية ام لا لكنى أشكر الله كثيرا أن ساقنى إليك وحفظنى بين جنباتك ..