الأربعاء، 18 مارس 2015

المراقب

 
 ظلت السمكة تنظر للظلام الدامس خارج حوضها .. تركها صاحبها هانئة تلك الليلة على غير العادة .. لا دقٌ على الحوض ولا رجرجة مياه ولا عيونه الساخرة تحوطها .. لم يتركها ليلة إلا ومارس طقوسه السخيفة تلك وكأن ليس فى منزله غيرها ..  أخذت ترتفع وتقفز فى الماء سعادة بحريتها .. هى حرية موهومة لكنها كل ما تملك فى لحظتها فلتنفقها حتى آخر قطرة .. بدأت تقترب من حدود الحوض وتضربه بنفس قوة الحلم الذى تراه .. لقد كانت دائما ترى الشرخ وتدفق المياه من الحوض واضحا فى حلمها .. تحس بكل مشاعر الحلم وكأنها حقيقة .. بقى شىء واحد فقط .. أن يتحقق بالفعل .. ابتعدت ثانية وسبحت بقوة نحو حدود الحوض لكن شيئا ما جعلها تفزع إلى الخلف وتهرع لقبوها .. لقد ظهرت عيناه اللتان تراقبانها من خلف الحوض ..

ضحك الرجل كثيرا وأخذ يدق على الحوض .. كل مرة كانت السمكة تفزع منه كان يزداد مرحا ويشعر أنه اتخذ قرارا سليما حينما قرر أن يأتى بذلك الشىء الجميل كى يغازله .. ظل يغنى ويدق أكثر لكنه فى لحظة توقف والتفت خلفه  ..



دائما ما يشعر بخيال أحد خلف ظهره .. جسد عظيم يكاد يرى ظله لكنه ما إن يلتفت حتى يختفى .. لم يره قط لكنه يشعر بوجوده وعيونه فى كل حركة يفعلها أو حتى خاطرة يحدث نفسه بها .. تلك العيون تدخل معه حجرته .. حمامه بل وملابسه .. وهو يطيل النظر لتفاصيل فتاة جميلة .. وهو يتحسس خاتما ذهبيا غفل الجواهرجى عنه .. وهو يتلمس ذيل قطة ويتخيل صراخها ومواءها وهو يتلذذ بحرقه .. حتى وهو يدق حوض السمكة الذى اشتراه بماله .. كم كانت تلك الأحلام تسعده بشدة لكنه لم يجرؤ يوما على أكثر من لحظات يختلسها قبل تجسد الظل فى خياله ..  لم يكن يدرى أذلك الظل صديق يشابهه ويحثه على أحلامه أم قاضٍ يحاكمه .. لم يكن يعرف هل يوافقه أم يسخر منه .. أمين أم غادر سيأتى فى أى لحظة ويشج رأسه .. لا يعرف عنه أى شىء سوى انه يرافقه وذلك كفيل بأن يدفن أحلامه التى يخجل أن يراها أحد سواه .. ولأنه غير واثق من حقيقة ذلك فقد قرر أن يستقر فى جزيرة ما بين ضفتى اليقين بوجوده أو عدمه ... جزيرة هادئة لا تحرمه لحظات مختلسة لكنها تسحبه بقوة كلما شطح بأحلامه بعيدا .. 



ذات يوم دخل عليه رجل ذو سلطة ومال .. كان يعلم جيدا لما هو موجود هنا وفى مكتبه بالذات .. على كل الوظائف المتاحة فى الشركة لم يجدوا غيره كى يضعوه فى ذلك المنصب الحساس .. ربما لأنهم رأوا امانته .. ربما تشمموا خوفه .. لا يهم .. هم اختاروه بثقة شديدة تجبره على احترامها .. لكن تلك المرة الرجل كان يعرض الكثير .. كثير لدرجة تدفعه للإبحار من جزيرة الشك تلك والاستقرار على إحدى ضفتي اليقين.. لكنه أراد أن يتأكد .. ذهب إلى طبيب عيون وحكى له عن تلك الظلال فى جانب عينه .. أخبره أن نظره سليم تماما اللهم إلا بعض الإجهاد من فرط السهر .. لم يعد هناك شك .. هو موهوم والأقسى من ذلك سنوات عمره التى قضاها فى قيده وخوفه .. أبحر بالمركب وحمل عليها  أمانيه وأحلامه إلى الأرض التى تمنى لمسها ..



نقلته الرشوة إلى فيلا كبيرة .. أحضر لها العناصر الأساسية لأحلامه .. فراش فخم .. قطط فارسية جميلة .. مرآة كبيرة تكشف جسده كله .. أشكال وألوان من الخمر الذى يعينه على نسيان وهمه لو آتاه ثانية .. وبدأ يمارس ما لم يتخيل يوما أنه يجرؤ على فعله .. بدأ يتسلل إلى قلبه شعور جديد .. أصبح شجاعا وجريئا حقا وأحلامه التى كان يراها داخل بلورة ضبابية أصبحت تتمدد وتزداد تفاصيلا اكثر .. لدرجة أنه تمنى لو يقفز بداخلها بالفعل لأن الواقع احيانا يأبى عليه أن يفعل ذات الحلم بالضبط ..


فى ليلة استعاد ذكرى مراقبه .. استغرب كثيرا أنه تأخر إلى ذلك الحد واستغرب أكثر أنه أصبح مجرد ذكرى وليس عيونا حقيقية يشعر بها .. مجرد فكرة كانت موجودة حين كان مؤمنا بها ... تعجب كثيرا كيف يمكن للإيمان أن يجعل الإنسان يتوهم شيئا ويشعر به وكأنه موجود .. لكن على أية حال هو الأن أيضا مؤمن .. مؤمن أنه وهم وعليه استكانت مخاوفه وارتاح .. لكن أحيانا كان يأتيه هاجس من نوع آخر .. كان يشعر بالاشمئزار من منظر زوجة مديره وهى نائمة أمامه .. لقد امتص جسدها كما امتص مديره روحه وثقته بنفسه ... كان ينتقم منه فيها لكنه فى لحظة كرهها وكره نفسه .. طعم الانتقام فى الأول قوى تمنى تذوقه لكنه حينما ابتلعه ترك فى حلقه مرارة لم يمحُها إحساسه بالتشفى أبدا ..


شعر بالاختناق تلك الليلة فوق العادة فنزل إلى شارع البحر يتمشى .. وجد فتاة صغيرة جميلة متسخة الوجه والفستان .. ظلت تنادى على مناديل والناس لا تلتفت إليها .. ربما اشمأزوا من قذارتها .. آتاه خاطر .. ماذا لو رماها فى البحر !! .. أخذ يتخيلها وأمواج البحر تغسلها وتدفن صرختها .. أخذ يتخيل نفسه وهو ينظر إليها ويضحك ويعوض مرارة قلبه بمشهد فكاهى كهذا .. قرر أن ينتظر رحيل الناس ويبدأ فى تمثيل وإخراج خياله فورا ..



وبينما هو جالس أمام البحر أخذ يستمع لأصوات أقدام وهى تعلو وتختفى .. شعر فى تلك الحظة أنه بين عالمين منفصلين .. نصف أمامه فيه بحر ومركب وحيد وقمر فضى يلقى لآلئه فوق الموج ... والنصف الآخر دقات أقدام يعلم أنها تحمل أجسادا من لحم ودم .. هو يستطيع أن يسمع كلاهما لكنه لا يرى سوى واحد فقط .. أراد أن ينسى ذلك العالم الخفى الذى لا يراه فأصغى السمع للريح وأمواج البحر فأصبحت الأصوات مجرد دقات بعيدة تقوى وتخفت .. لكنه رغم ذلك غير قادر أن يمحوها من عقله .. ما جدوى أن تسمع أذنه ما لا يراه .. هل معنى ذلك أن العين ليست دليله الوحيد على وجود الأشياء .. وأن هناك حواسا أخرى تشعر وتحس وهى صادقة فى ذلك .. دقات الأقدام ليست وهما وكل حركة وهمس يسمعه يدله على وجود شىء يتحرك بالفعل ..بدأ يشعر باقتراب مركبه من جزيرة الشك ثانية فأسرع بتشتيت ذهنه إلى هياج أمواج البحر.

 

وبينما هو كذلك اقترب منه سائر .. لم يشعر به إلا وهو خلفه مباشرة .. توقف الرجل وظل صامتا لحظات فشعر بالخوف ... وقبل أن يلتفت إليه أكمل الرجل طريقه .. بدأ يتحسس جيبه ورأسه خوفا أن يكون السائر قد سلبه شيئا وهو غير منتبه .. وجد كل شىء مكانه فتنفس الصعداء .. هو قد أعطى ظهره للناس ولا يدرى ما الذى يمكن أن يغتنموه بتلك الفرصة الذهبية .. يعجب ما الذى يمنع أيا منهمأ أن يدفعه فجأة أو حتى يهمس فى أذنه بكلمة قوية تفزعه .. لو كان مكان السائرين لفعل .. بالتأكيد هم يحلمون مثله .. بالتأكيد يملكون ذات الملل والسخف فى حياتهم بدرجة كفيلة بأن تجعلهم يطلقون العنان لجنونهم .. لكنهم لا يفعلون مثلما كان هو منذ زمن .. كأنهم يملكون ذات المراقب لكنه تلك المرة أحبه .. لأنه على قدر ما قيدهم على قدر ما منع شرهم عنه ..



نظر إلى المركب وتساءل عن كم العيون التى تتابعه عبر الشط  .. ليس هو وحده من جذب انتباهه بُعد المركب ووحدته فى البحر .. لكنها عيون بلا قيمة إذا المركب غرقت لن تفعل شىيئا سوى الصياح والضجيج .. عيون تكتفى بالنظر والتعليق فقط .. عيون عاجزة عن مد أياديها لإنقاذ غريق واحد أو حتى لبناء جسر للضفة الأخرى  .. نظر إلى السماء فوجدها تغطى البحر والقمر والمركب .. نظر للشط الآخر وجده بعيدا لكن الرياح تدفع المركب والقمر يضىء طريقه والأمان ينتظره .. وجد الطفلة الصغيرة تقترب منه وتمد يديها بمنديل .. جفنا عينيها كأنهما شاطئان بينهما ذات البحر الهائج الحزين .. تفتحهما كل يوم على رحلة جديدة لا تدرى نهايتها .. لكن تلك الرحلة داخل عين تراقبها .. عين تحمى وتحفظ ... تغمض وتظلم لأنها تمنع أذى يقترب منها وتفتح كى ترى نور الفجر وجمال الحياة ... لأول مرة شعر أنه يحب وجودها .. أدرك أنها لا تخيفه ولا تقيده بل أمان وجمال حياته أنه بداخلها ..

ربت على رأس الطفلة ذات العيون الحلوة .. ومضى فى سبيله ..




0 التعليقات: