
ضحك الرجل كثيرا وأخذ يدق على الحوض .. كل مرة كانت
السمكة تفزع منه كان يزداد مرحا ويشعر أنه اتخذ قرارا سليما حينما قرر أن يأتى
بذلك الشىء الجميل كى يغازله .. ظل يغنى ويدق أكثر لكنه فى لحظة توقف والتفت خلفه ..

ذات يوم دخل عليه رجل ذو سلطة ومال .. كان يعلم جيدا لما
هو موجود هنا وفى مكتبه بالذات .. على كل الوظائف المتاحة فى الشركة لم يجدوا غيره
كى يضعوه فى ذلك المنصب الحساس .. ربما لأنهم رأوا امانته .. ربما تشمموا خوفه ..
لا يهم .. هم اختاروه بثقة شديدة تجبره على احترامها .. لكن تلك المرة الرجل كان
يعرض الكثير .. كثير لدرجة تدفعه للإبحار من جزيرة الشك تلك والاستقرار على إحدى
ضفتي اليقين.. لكنه أراد أن يتأكد .. ذهب إلى طبيب عيون وحكى له عن تلك الظلال فى
جانب عينه .. أخبره أن نظره سليم تماما اللهم إلا بعض الإجهاد من فرط السهر .. لم
يعد هناك شك .. هو موهوم والأقسى من ذلك سنوات عمره التى قضاها فى قيده وخوفه .. أبحر
بالمركب وحمل عليها أمانيه وأحلامه إلى
الأرض التى تمنى لمسها ..
نقلته الرشوة إلى فيلا كبيرة .. أحضر لها العناصر الأساسية
لأحلامه .. فراش فخم .. قطط فارسية جميلة .. مرآة كبيرة تكشف جسده كله .. أشكال
وألوان من الخمر الذى يعينه على نسيان وهمه لو آتاه ثانية .. وبدأ يمارس ما لم
يتخيل يوما أنه يجرؤ على فعله .. بدأ يتسلل إلى قلبه شعور جديد .. أصبح شجاعا
وجريئا حقا وأحلامه التى كان يراها داخل بلورة ضبابية أصبحت تتمدد وتزداد تفاصيلا
اكثر .. لدرجة أنه تمنى لو يقفز بداخلها بالفعل لأن الواقع احيانا يأبى عليه أن
يفعل ذات الحلم بالضبط ..
فى ليلة استعاد ذكرى مراقبه .. استغرب كثيرا أنه تأخر إلى
ذلك الحد واستغرب أكثر أنه أصبح مجرد ذكرى وليس عيونا حقيقية يشعر بها .. مجرد
فكرة كانت موجودة حين كان مؤمنا بها ... تعجب كثيرا كيف يمكن للإيمان أن يجعل الإنسان
يتوهم شيئا ويشعر به وكأنه موجود .. لكن على أية حال هو الأن أيضا مؤمن .. مؤمن أنه
وهم وعليه استكانت مخاوفه وارتاح .. لكن أحيانا كان يأتيه هاجس من نوع آخر .. كان
يشعر بالاشمئزار من منظر زوجة مديره وهى نائمة أمامه .. لقد امتص جسدها كما امتص
مديره روحه وثقته بنفسه ... كان ينتقم منه فيها لكنه فى لحظة كرهها وكره نفسه .. طعم
الانتقام فى الأول قوى تمنى تذوقه لكنه حينما ابتلعه ترك فى حلقه مرارة لم يمحُها إحساسه
بالتشفى أبدا ..
شعر بالاختناق تلك الليلة فوق العادة فنزل إلى شارع
البحر يتمشى .. وجد فتاة صغيرة جميلة متسخة الوجه والفستان .. ظلت تنادى على
مناديل والناس لا تلتفت إليها .. ربما اشمأزوا من قذارتها .. آتاه خاطر .. ماذا لو
رماها فى البحر !! .. أخذ يتخيلها وأمواج البحر تغسلها وتدفن صرختها .. أخذ يتخيل
نفسه وهو ينظر إليها ويضحك ويعوض مرارة قلبه بمشهد فكاهى كهذا .. قرر أن ينتظر
رحيل الناس ويبدأ فى تمثيل وإخراج خياله فورا ..

وبينما هو كذلك اقترب منه سائر .. لم يشعر به إلا وهو
خلفه مباشرة .. توقف الرجل وظل صامتا لحظات فشعر بالخوف ... وقبل أن يلتفت إليه أكمل
الرجل طريقه .. بدأ يتحسس جيبه ورأسه خوفا أن يكون السائر قد سلبه شيئا وهو غير
منتبه .. وجد كل شىء مكانه فتنفس الصعداء .. هو قد أعطى ظهره للناس ولا يدرى ما
الذى يمكن أن يغتنموه بتلك الفرصة الذهبية .. يعجب ما الذى يمنع أيا منهمأ أن يدفعه
فجأة أو حتى يهمس فى أذنه بكلمة قوية تفزعه .. لو كان مكان السائرين لفعل ..
بالتأكيد هم يحلمون مثله .. بالتأكيد يملكون ذات الملل والسخف فى حياتهم بدرجة
كفيلة بأن تجعلهم يطلقون العنان لجنونهم .. لكنهم لا يفعلون مثلما كان هو منذ زمن
.. كأنهم يملكون ذات المراقب لكنه تلك المرة أحبه .. لأنه على قدر ما قيدهم على
قدر ما منع شرهم عنه ..
نظر
إلى المركب وتساءل عن كم العيون التى تتابعه عبر الشط .. ليس هو وحده من جذب انتباهه بُعد المركب
ووحدته فى البحر .. لكنها عيون بلا قيمة إذا المركب غرقت لن تفعل شىيئا سوى الصياح
والضجيج .. عيون تكتفى بالنظر والتعليق فقط .. عيون عاجزة عن مد أياديها لإنقاذ
غريق واحد أو حتى لبناء جسر للضفة الأخرى .. نظر إلى السماء فوجدها تغطى البحر والقمر
والمركب .. نظر للشط الآخر وجده بعيدا لكن الرياح تدفع المركب والقمر يضىء طريقه
والأمان ينتظره .. وجد الطفلة الصغيرة تقترب منه وتمد يديها بمنديل .. جفنا عينيها
كأنهما شاطئان بينهما ذات البحر الهائج الحزين .. تفتحهما كل يوم على رحلة جديدة
لا تدرى نهايتها .. لكن تلك الرحلة داخل عين تراقبها .. عين تحمى وتحفظ ... تغمض
وتظلم لأنها تمنع أذى يقترب منها وتفتح كى ترى نور الفجر وجمال الحياة ... لأول
مرة شعر أنه يحب وجودها .. أدرك أنها لا تخيفه ولا تقيده بل أمان وجمال حياته أنه
بداخلها ..
ربت على رأس
الطفلة ذات العيون الحلوة .. ومضى فى سبيله ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق